إن القرآن الكريم صحيفة معجزة جامعة للعلوم الدينية والدنيوية لا يوجد لها نظير في جميع الآداب العالمية. وذلك أن القرآن الكريم يمتاز بأنه في الوقت الذي يتناول فيه من قضايا العقائد والعبادات والمعاملات ما يحيط به كافة الأصول الأساسية للحياة البشرية، فإنه يحيط كذلك بالعلوم الدنيوية والقضايا الفكرية والنظرية. لذلك فإن هدايته لا تكون محدودة على القضايا الشرعية والدينية ، إذ أنه يقوم بهداية النوع البشري من النواحي الفكرية والنظرية ويؤمّنه من الاضطراب العقلي والنفسي. ومن هنالك كان القرآن الكريم مجموعة رائعة جميلة من إضمامة الشريعة والطبيعة حتى أعوز الإتيانُ بمثلها جميعَ النوع البشري .
والأمر أن القرآن الكريم يعمد إلى بيان تلك الحقائق والأسرار الطبيعية التي تبدّد الريب حول ربوبية الله تعالى وخالقيته، وتجيء بالآيات البينات والشواهد القاطعة للنوع البشري ، حتى تتبين للإنسانية الضالة ما يشهده نظام الكون من البراهين الساطعة، لئلا يجوز لهم بعد ذلك أن يكفروا بالله تعالى، وتتمَّ حجة الله عليهم. وهذا ما دعا القرآن الكريم إلى الاستدلال بالمظاهر الكونية المختلفة وبيان القضايا الشرعية جنبا إلى جنب في كثير من آيات القرآن الكريم . كما أنه يركّز على ضرورة مطالعة الأشياء المادية من الحيوانات والنباتات والجمادات والأفلاك ، والنظر في نظمها، واستخراج العظات والبصائر - النتائج المنطقية - المودعة فيها، ثم الادّكار بها.
التفكير ..... أساس الإيمان
خلق الله الإنسان في أحسن صورة ، وكرمه على سائر المخلوقات بالعقل ، به يسمو وبه يدرك مالا يدركه غيره من المخلوقات ، علماً وأن الإنسان خلق ليكون خليفة الله في أرضه ، لذا من الضروري أن يفكر هذا الإنسان في المخلوقات من حوله ، ويتدبر إبداع هذا الكون وعظمته ، فيعرف ربه سبحانه وتعالى وأنه خلقه ثم يميته ثم يحييه حياة أخرى وبجانب ذلك يفكر في أموره الحياتية التي تعتبر من الضروريات بالنسبة إليه هذه الأمور كلها داعية للاعتبار ، وا يربط القرآن الكريم الإنسان بآيات الله تعالى وبالخلق .. خلق الكون وما فيه وخلق الإنسان نفسه .
وكم أيقظ القرآن من نائم ، وكم نبه من غافل في هذه الآيات التي يقرع بها مسامع الناس حتى يقفوا على الحقيقة ويدركوا عقيدة التوحيد الصحيحة ويعتقدوها . قال تعالى: ( وَفِي الارْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطقُونَ ( (2)
جدد القرآن الإحساس بالكون بإزالة الغفلة المعطلة لرؤية الأشياء بسبب الإلف الطويل الذي يحرم العين من التحديق فيما حوله:
أ ـ «ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير»؟
ب ـ «ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله وينزّل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار»؟
جـ ـ «أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض»؟
2 ـ واقترن تجديد الاحساس باشياء الكون ووحداته: بالتحريض على النظر في الكون:
أ ـ «قل انظروا ماذا في السموات والأرض».
ب ـ «قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق».
جـ ـ «فلينظر الإنسان إلى طعامه. أنا صببنا الماء صبا. ثم شققنا الأرض شقا. فأنبتنا فيها حبا. وعنبا وقضبا. وزيتونا ونخلا. وحدائق غلبا. وفاكهة وأبا. متاعا لكم ولأنعامكم».
3 ـ وبتجديد الإحساس، وبالنظر: يحض القرآن على التفكير في (الكون):
أ ـ «وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون».
ب ـ «هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون. ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون».
4 ـ وبتجديد الاحساس بالكون، وبالنظر السديد إليه، وبالتفكير النابه فيه: يتهيأ الانسان القوي للتعامل المنهجي الموضوعي العلمي مع الكون «المسخر له» ومن أجله. فوحدات الكون وأشياؤه ليست «آلهة» تخاف فتعبد، ولا «مقدسات» خرافية يؤدي المساس بها إلى انقلاب في نظام الطبيعة!!. بل ان هذه الوحدات والأشياء الكونية «مسخرّة» للانسان . «إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا. فاتبع سببا».
أنه لابد لكل معلول علة ، ولكل مُسبب سبب ، ولكل حادث محدث ، وحتى ينهي الأمر لعلة لا علة بعدها ، وسبب لا سبب له ، مُحدِث غير حادث ، وهو علة العلل الذي منه بدأ كل شيء وهو خالقه ومُسببه ومحدِثه ، ولا يمكن أن يوجد العالم بهذا النظم والإتقان العجيب صدفة ، ومن غير علة وسبب ومُحدِث له ، وهو الذي أودع في الكون وفي كل موجود وكائن القدرة على كل هذا التأثر والتأثير ، وهو يمد وجوده ويمنحه القوة والاستمرار في الوجود والسير لغايته .
وهذا يا أخي : علة العلل ، ومُسبب الأسباب ، ومحدث الوجود وحوادثه ، فهو الله وحده لا شريك له سبحانه وتعالى ، العليم الحكم الخبير ، القادر القاهر ، الحي القيوم الذي له الأسماء الحسنى والصفات العليا ، وله كل كمال وجمال وجلال ، ومنه في التكوين كل بهاء وحسن سبحانه وتعالى ، ويجب أن نؤمن به وبكل ما أمرنا به وأن نقيم له العبودية والطاعة له وحده لا شريك له ، وأسأل الله لك ولي الإخلاص له ، إنه أرحم الراحمين ، آمين يا رب العالمين.